دأب أستاذ اللغة العربية وآدابها، مؤلف مئةٍ وثلاثةَ عشر كتابًا، رئيس "جمعيَّة تجاوز الثقافية"، البروفسور ديزيره حبيب سقَّال، على إصدار كتبه الأخيرة، إلكترونيًّا، مُقلعًا عن طباعتها ورقيًّا. يصدرها ويوزِّع رابطًا على أحد المواقع الإلكترونية، يمكن القرَّاء عبره قراءتها.

غزير السَّقَّال في إنتاجه، ووافر في ثقافته، ومعلِّم في إنتاجه. ولعلَّ ما يستوقفني في مؤلفاته، معلَّقاتُه السَّبع التي حاكى فيها معلَّقات الجاهلية، بأسلوب عصريٍّ، وكتابه "أبديَّة".

فهو بسعة معرفته هذه قادر على أن يبتكر ويتجاوز ويستشرف. قُلهُ علَمًا من أعلامِ العربية، أدبًا وقواعدَ، صرفًا ونحوًا، بحثًا وتعليمًا وتأليفًا. وكم من جيل تتلمذ عليه، أفي المدارس أم في الجامعات أم في المنتديات والجمعيات، وكم من أطروحةِ دكتوراه وبحث أكاديمي، مرَّر عليها قلمَه الأنيق الذي لا يخطئ... فكم كم وكم كم... تجاوزَ في ما أتى من مؤلَّفات، كلَّ عمل سبق، حتى غدا المرجِع والقاموسَ والكتاب.

فماذا عن معلقاته؟

سألتُ، ذات مرَّة، الشَّاعر جوزف حرب: "لِمَ كلُّ هَذا الحزن في شِعرِك، وما شِعرُك سوى مبعثِ فرحٍ لي ولكثرٍ غيري"؟

أجاب، بما عدَدْتُه شخصيًّا أجملَ قصائده: "يا صديقي، لم نَجِئْ إلى هذه الدُّنيا كي نفرح، بل كي نقلِّل الحزن".

ليجيئَك السَّقَّال، بمعلَّقة "الفرح"، فيلتقي مع جوزف حرب، على أنَّ منتهى الفرح ومشتهاه، ما هو إلَّا القصيدة، الكون الجديد الذي يجترحه خيالُ شاعر، وحلم شاعر، فلا يمكنهما أن يكونا، إذذاك، إلَّا خيالَ إله، وقدرةَ إله على جعل الحلم حقيقة.

كأنِّي بالسَّقَّال، في معلَّقته السَّادسة، وقد تسامى بالذَّات الإنسانيَّة، في حالاتها جميعًا في معلقاته السبع، نبيٌّ من أنبياء الشِّعر، سماؤه المحبرة، وسِدرته القافية، والكلمات صحبه ورعيته.

وكأنِّي به، منهزمًا أمام الحياة، يعترف بأنَّ الفرحَ باطلٌ باطلٌ، إلَّا في الحلم، فاخترعه ليحياه، في القصيدة، وشالَ بها... كتابَ صلاةٍ، تلتقي فيه الآيات والمعجزات، كي تجرع معه نخب الفرح الجديد. 

سرُّ هذا الفرح، عينا امرأة طفلة، طفلة أنثى، مع ما للأنوثة من خصرٍ زهرٍ، وبسمةٍ عندلةٍ، وشَعرٍ حقولٍ، وقوامٍ امتشاقِ عطرٍ، ومقلتينِ نبعِ فرحٍ. وقد اخترعها من شرود، وافترضها من انعتاق، واستحضرها من غيب، حتَّى تماهى والذُّهولَ بها، لتصبح "حضورًا ثابتًا"، فكانَ كونٌ جديدٌ بكرٌ، هو نفسه الكون المخلوق في ستة أيام، ولكن في قصيدة... هي أيضًا بكرٌ، وكان أن استحال حلمه حقيقةً آسرةً، بل قل قدرًا.

بذا، يُكمل السَّقَّال تُحفة الخالق، على ما يقول سعيد عقل، بإزميلٍ من نورٍ، ينبثقُ منه قوسُ قزح، هو جميعُ السَّماء حين ينعقدُ قنطرةً فيها، هو أنثاه الَّتي تختصرُ جميع النِّساء، فتشرق الشَّمس فرحًا، تمطره أيضًا تلك السَّماء، فيحتفل الكون بعرس الحروف.

فالإنسان، في "كتاب الفرح" هذا، هو أيضًا الخالق. هكذا شاءه الخالق. فيذكِّرنا الشَّاعر بما شاء الله.

وبعد،

لا تختلف "المعلقة السَّادسة" عن معلَّقات السقَّال السَّبع، غِنائيَّةً وانسيابيَّةً؛ سكبًا وتقطيرًا وتكثيفًا وترابطًا؛ تكويرًا، كما ليل ونهار، وإيحاءً؛ وفرة صور، وغنى معانٍ ومفردات. كأنِّي ببستانِ كلماتها، بستان نفسه، لا ثمارَ كثماره، ولا ظلال.

وهي، بعدُ، أناشيدُ وصلوات، نُظمت على البحر المتقارب، عمدًا ربَّما، حيث لا تتقارب الآيات والسُّور فحسب، بل قل تتداخل أيضًا. فتعْرُج فيها الكلمة على الجلجلة، وتُسري على الصَّليب؛ تُصلبُ على الوحي، هي الَّتي وُلدت على سِدرة المنتهى، وتعتمد بنهر الحبر... فتكون قرآنَ التَّأسيس والتَّكوين، إنجيلَ النُّور والفرح.

ديزيره سقَّال في معلَّقته السَّادسة، أكمل فعلَ التَّكوين، وقد رأى أن ما أتاه حسن، فاستراح في اليوم السَّابع، يوم الفرح وكتابه.   

وهل الفرح غير الشِّعر والمعلَّقة والقصيدة؟

وديزيره سقَّال بعد؟... يختصرُ كلَّ ما يُقال بعبارةٍ من كلمتين، بصيغة الأمرِ وجوابِ الأمر المجزومِ بالسكونِ الظَّاهِرِ على محيَّا المجالسِ والكلام؟ 

"شَأْ... تَكُنْ".

ما أخطأتُ إذ سمَّيتُه شاعرَ الوِلاداتِ الخصيبة. من أصابعِه يولَدُ شعراءُ، من محابره تتوالدُ صفحات، ومن رحِم معرفته، يعلِن الكتابُ نفسَه. كأنِّي به يلِدُ نفسَه، فيحدِّد مفهومَ الشِّعر كما لا أحَدَ قبلُ وبعدُ، بعرضه شريطَ حياته، من لحظة الولادة إلى الخلود، ليعلن أنَّه الشَّاعر المشروع المتكامل: لغة، رمزًا، صورة، حبكة، رؤية، إيقاعًا، خيالًا، دهشةً... وكثيرَ عاطفة. فهل مثلُه من يَقْدِر؟

 وماذا إذًا عن كتابه "أبدية"؟

يقول جرجي زيدان: أوَّلَ ما نطقَ الإنسان، إنَّما شعرًا. ويضيف: أمَّا الشعر والموسيقى فمتلازمان. فهل كان زيدان، برأيه هذا، يناقضُ الوحي الذي به أُنزل الكتاب؟

سألتُني، ذاتَ مرَّة، أغاوٍ أنا؟ وكنتُ، فتًى، أجتلي درب الشعراء. وسألتُني، حين صرت شاعرًا، أين همُ الغاوون يتبعونني؟ ولمَ يتبعون، وعلامَ؟ وتبحَّرتُ في سورة الشُّعراء، وأيقنت أنْ لو أنزلَ القرآن شعرًا، لتحول ربما نصوصًا للغناء. مرحًى بلال.

ولكن، على لوثتي في القراءة، رحت ذات مرة، أقطِّع آياتٍ قرآنيَّة. فوجدتني أمام سؤال، هل تقصَّد الوحي ألَّا يُتمَّ الآيةَ موزونةً؟ أظنُّ أن بلى.

ومن هذا المنطلق أتناول "أبدية" السَّقَّال.

حاشا أقارنها بالكتاب. 

درسها، باقتدار وعمق، الدكتور الشاعر روبير البيطار، تحت عنوان "الغزل الإلهي بتجلياته الصوفية اللانهائية"، فركّز فيها على توحّد الذاتين ثمّ انشطارهما والذوبان بروح الله الكلّيّة، إضافة إلى حالات السكر والانخطاف والحلم وما تولّده من فرح أثيريّ يتخطّى المادّيّة والأرضيّ. كأنِّي بالسَّقَّال يتجلَّى شاعرًا صوفيًّا.

وحين شرعتُ، شخصيًّا، في قراءتها، رافقتني لوثة التقطيع. لم آبه لما لم أقبضْ عليه في وزن النص الطويل. قلت إن السَّقَّال يختبرنا، يمتحننا، يضيعنا، يقول لنا: أينكم مني، أنا الشاعر وأنتم الغاوون، اتبعوني.

ولكن، وبعد قراءة أخرى بعين هادئة، تأكد لي أنه كتب نصًّا نثريًّا طويلًا، زيَّنه بمقاطع موزونة خليليًّا. يا خليليَّ أوقعتني "أبدية" في التجربة.

وما التجربة؟ لمَ لمْ أحسَّ وأنا في قراءتي الأولى أنَّ الوزن لم يستقم؟ لمَ أخذني النص على جناحي النغم والإيقاع السليمين؟ فاكتشفت أن السَّقَّال، وبوحي من علُ، اختصر في أبديته مفهوم النَّغميَّة الإيقاعيَّة، للرد ربما على من يتكلمون على الإيقاع الداخلي.

للإيقاع آلاته ومحدداته وتسمياته. تختصر بثلاثة مقاطع صوتية: دم، تك، سك. ربَّاه... لست نجوى كرم. لكن الكلامَ الملحَّن الموقَّع على الإيقاع، يحتال على الإيقاع، بمدِّ حرف أو تسكين آخر، ليبقى النَّغم على السكة الإيقاعية. فترى، في نص "أبدية"، تجاورًا جميلًا، بين تفعيلات لا تتجاور في بحور الخليل، كأن تشرب "مستفعلن" فنجان قهوة مع "مفاعلتن" على شرفة "فاعلاتن"، فيما المشهد من بعيد متآلف ومنسجم ولا خبن فيه. 

هذه النغمية الإيقاعية، هي سر هذه الأبدية...

وهو سرٌّ يضاف إلى أسرار شعريَّة السَّقَّال وشاعريتِه. إذ ما هو إلَّا شاعرٌ صاحب مشروع شعري، وعاه من أوَّل قصيدة، وأوَّل ديوان، وما زال يستكمله، قوامه ثالوث العقل والإنسان والحبّ.

البروفسور ديزيره حبيب سقَّال مع الكاتب حبيب يونس

وأختم بما يختصر علاقتي ومعرفتي بهذا المعلِّم:

مَرَّةً بَعْدُ، إِلَيْنَا نَنْتَمِي

فَارْحَمِ الْأَرْحَامَ إِنْ لَمْ تَرْحَمِ

مِنْبَرٌ، سَكْرَةُ شِعْرٍ، فِكْرَةٌ،

جَهْرَةٌ فِي الْحِبْرِ لَمَّا تُكْتَمِ

رَحِمٌ وَاحِدَةٌ شَالَتْ بِنَا

قَبْلَ أُمَّيْنَا... وَإِنْ لَمْ نَعْلَمِ!!!