إلى أن يعود الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، وفي انتظار اجتماع اللجنة الخماسية العربية – الدولية على مستوى الممثّلين في الرياض، فإنّ القرار في شأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني بات في يد واشنطن والرياض ولا ثالث لهما. ففي النهاية فرنسا ستتماهى مع الموقف الأميركي في حين ستتماهى مصر وقطر مع الموقف السعودي.

ولكن قبل أن يعود هوكستين إلى لبنان، إذ من المقرّر أن يكون قد وصل إلى تل أبيب، يتوقّع إعلان وقف إطلاق النار في غزّة بين إسرائيل وحركة "حماس" وأخواتها، بعدما عُمِلَ عليه في اجتماع باريس الرباعي الأخير بين قطر ورؤساء أجهزة الاستخبارات الأميركية والمصرية والإسرائيلية، والذي سيؤدّي حتماً عند إعلانه إلى توقّف إطلاق النار على حدود لبنان الجنوبية بين حزب الله وإسرائيل، وقد يوفر ذلك مناخات هادئة لمهمّته من أجل البحث بينه وبين المسؤولين اللبنانيين في موضوع تثبيت الحدود اللبنانية الجنوبية وتنفيذ القرار الدولي 1701 لعام 2006.

ومن المنتظر أن يستأنف البحث بين هوكستين والمسؤولين اللبنانيين من حيث انتهى في زيارته السابقة في ضوء ما يفترض أن ينقله من واشنطن وتل ابيب، وهو أن تنفيذ القرار 1701 بعد تثبيت حدود لبنان المرسّمة منذ العام 1923 ومن ثم في اتفاقية الهدنة المعقودة في آذار 1949 بإزالة التعديات الإسرائيلية عليها في 13 نقطة موثّقة منذ الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب عام 1978والانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا حسبما يطالب لبنان.

وقد شدّد لبنان أمام هوكستين في زيارته السابقة، وسيركّز الآن على أولوية انتخاب رئيس جمهورية وتكوين سلطة لبنانية جديدة، إذ لا يمكنه الخوض في الملف الحدودي البرّي وبتّه من دون وجود رئيس جمهورية، وهو صاحب الصلاحية الدستورية الوحيد للمفاوضة على عقد المعاهدات الدولية، وهذا ما يستدعي من الوسيط الأميركي ومن دول المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية المهتمة بلبنان مساعدته على حلّ الأزمة السياسية، التي تشكّل الأزمة الرئاسية عنوانها الأساسي.

ولذلك يقول أحد المتابعين للشأن الرئاسي إن مهمة هوكستين ليست منعزلة عن المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية، التي تركّز اهتمامها في حراكها المتجدّد على تمكين لبنان من انتخاب رئيس الجمهورية، لضرورته من أجل معالجة الوضع على الحدود الجنوبية، والتي تتصل في جانب منها بالمعالجة المنتظرة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، فضلاً عن معالجة موقف "حماس" من إسرائيل.

ويقول ديبلوماسي مخضرم صحيح أنّ هناك هجمات ديبلوماسية شهدها لبنان والمنطقة في ما مضى، ولكنّ الهجمة الحالية مختلفة جدّاً عن سابقاتها "فهي هجمة قويّة تتصل بصفقة كبيرة تهدف إلى حلّ كثير من المشكلات في المنطقة، ومن ضمنها حلّ المشكلات التي وصلت إليها إسرائيل".

ويوضح هذا الديبلوماسي أنّ الولايات المتحدة الأميركية راعت في ردّها على الهجوم الذي تعرّضت له قاعدتها في التنف عند المثلث الحدودي السوري ـ الأردني ـ العراقي، عدم الانزلاق إلى حرب شاملة في المنطقة تعرّض مصالحها ومشاريعها فيها للخطر، فهي للحفاظ على هيبتها ردّت بقصف مراكز وقواعد لمنظّمات مقاتلة تدعمها إيران في سوريا والعراق واليمن، ولكن قيل أنّ ردودها كانت منسّقة مسبقاً من نوع تنسيق الردّ الإيراني على اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، ولم تتسبّب هذه الردود بحرب في المنطقة، لأنّ مثل هذه الحرب إذا نشبت من شأنها أن تنعكس سلباً على المصالح الانتخابية لإدارة الرئيس جو بايدن، الذي يطمح إلى الفوز بولاية رئاسية جديدة. وكذلك يرى الدبيلوماسي نفسه أنّ الردود العسكرية الأميركية في سوريا والعراق ربما أفادت بايدن انتخابياً ومعنوياً، خصوصاً أنّه لا يريد مهاجمة إيران على أراضيها، ولكنّه لم ير ضيراً في ضرب بعض المصالح الإيرانية في العراق وسوريا، لأنّه يدرك أنّ طهران ترى في بقائه في البيت الأبيض مصلحة لها، لا سيّما أنّه في الأساس كان عرّاب توقيع الاتفاق النووي معها عام 2015، والذي انقلب عليه لاحقاً الرئيس السابق دونالد ترامب منافس بايدن حالياً في السباق الانتخابي إلى البيت الابيض.

صفقة حلّ كبيرة في الشرق الأوسط يتمّ العمل على بلورتها، تبدأ من حدود إسرائيل الجنوبية مع غزّة وتنتهي بحدودها الشمالية مع لبنان. 

وإلى ذلك، فإنّ الأميركيين يرون أن إسرائيل أصبحت منهكة، لأنها قصفت ودمّرت وقتلت وارتكبت المجازر في غزّة ما استطاعت، ولكنّها لم تتمكن من تحقيق أهدافها من الحرب، فلا قضت على حركة حماس، ولا تمكّنت من استعادة الأسرى منها. وعليه، يقول الديبلوماسي، تحاول واشنطن أن تقنع إسرائيل بوقف الحرب التي شنّتها بدعم مطلق منها ولفترة محدّدة، وقد أنهت هذه الفترة من دون أن تحقّق الأهداف المرجوة منها، في حين أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يصرّ على الاستمرار في الحرب بلا حدود ولا ضوابط غير آبه للموقف الأميركي، لأنّ مصير حياته السياسية مرتبط بهذه الحرب. ولذلك يحاول الأميركيون مساعدته على إيجاد الطريقة التي يحفظ بها ماء وجهه، من خلال حديثهم مع الآخرين عن نوعية الحكم الفلسطيني لقطاع غزة في المرحلة المقبلة. وهنا يدور حديث عن إيلاء زمام السلطة للجيل الفلسطيني الذي كافح وناضل وسجن من مثل مروان البرغوتي وأحمد سعدات ورفاقهما الذين في إمكانهم أن يعقدوا اتفاق سلام مع إسرائيل.

وينطلق الديبلوماسي من ذلك ليؤكّد أنّ هناك صفقة حلّ كبيرة في الشرق الأوسط يتمّ العمل على بلورتها، تبدأ من حدود إسرائيل الجنوبية مع غزّة وتنتهي بحدودها الشمالية مع لبنان. ويشير إلى أنّ مهمّة هوكستين تتعلّق بالحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، أي الجبهة الشمالية لإسرائيل، ولكن هذه الجبهة تتصل في الوقت نفسه بالحلّ الإسرائيلي للحدود مع غزّة.

ومن هنا، وبحسب الديبلوماسي، يأتي اهتمام المجموعة الخماسية بضرورة انتخاب رئيس جمهورية للبنان وتأليف حكومة، لأنّها تنتظر حصول اتفاقات في المنطقة لا يستطيع لبنان ملاقاتها بفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية وبحكومة تصريف أعمال لا صلاحية لها ولا قدرة في التعاطي مع هذه الاتفاقات، ولذلك تريد الخماسية أن ينتخب الرئيس اللبناني سريعاً نظراً لعلاقته المباشرة في قضية تطبيق القرار 1701، فكلا الأمرين، أي غزّة والجنوب، يسيران جنباً إلى جنب، وهذا ما يُعمل عليه، فحلّ قضية غزّة جنوباً يفرض حلاً لقضية الحدود شمالاً، تريده إسرائيل لتمكين عشرات الآلاف من المستوطنين النازحين من المستوطنات الشمالية من العودة إلى بيوتهم، إلى جانب العودة التي يريدها النازحون من مستوطنات غلاف غزة.

ولذلك يخلص الديبلوماسي المخضرم إلى الاستنتاج "أنّ هناك هجمة ديبلوماسية في اتجاه لبنان لتأمين انتخاب رئيس جمهورية في أسرع وقت ممكن، "لأنّ معالجة مشكلة إسرائيل على حدودها الشمالية باتت مستعجلة، وواشنطن باتت ترى في هذه الحال أنّ انتخاب رئيس لبنان أصبح حلقة ضرورية في سلسلة الحلّ".