يختلط في هذه المرحلة حابل الوضع الإقليمي والدولي المحيط بلبنان بنابل الوضع اللبناني الداخلي إلى درجة يكاد هذان الوضعان أن يسيرا جنباً إلى جنب على مستوى التحرّكات التي تستهدف معالجتهما أو تأجيجهما لا فرق. فلبنان الواقف على فالق التهديدات الإسرائيلية استقبل الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين لينتظر عودته مجدداً، تماماً مثلما ينتظر عودة الموفد الرئاسي الفرنسي و"الخماسي" العربي ـ الدولي جان ايف لودريان الذي بدوره ينتظر اجتماع الخماسية المرتقب في الرياض أو القاهرة لـ"الافراج" عن مهمّته.

في الإقليم، كما في الداخل اللبناني، تنصبّ الاهتمامات على جبهتي غزة وجنوب لبنان في آن واحد، إلّا أنّ الجبهتين كلتيْهما كانتا ولا تزالان مفتوحتين على كلّ الاحتمالات. فمثلما جبهة غزة مرشّحة لمزيد من التصعيد والمعارك في ظلّ الاصرار الإسرائيلي على المضيّ في الحرب للقضاء على حركة "حماس"، فإنّ جبهة الجنوب اللبناني هي الأخرى مرشّحة لأن تشهد حرباً مفتوحة قد تمتدّ إلى المنطقة في ظلّ التهديد الإسرائيلي بشنّ حرب مدمّرة ضد حزب الله ولبنان. وقد تولّى موفدون دوليون كثر نقل هذه التهديدات للبنان بوسائل مختلفة، مطالبين بانسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني تنفيذاً للقرار الدولي 1701 الصادر عام 2006، والذي لم تلتزم إسرائيل ما يفرضه عليها من موجبات منذ صدوره.

في ظلّ هذه التطورات يأتي التحرّك الجديد للمجموعة الخماسية العربية ـ الدولية المهتمّة بلبنان، خصوصاًوأنّ بعض دولها وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، شاركت في نقل رسائل التهديد الإسرائيلية للبنان تحت جنح البحث مع المسؤولين في الاستحقاق الرئاسي وسبل إنجازه، ومن هؤلاء كانت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا ونظيرها البريطاني وكذلك الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين وغيرهم إلى جانب عدد من السفراء الأجانب.

جبهة الجنوب اللبناني مرشّحة لأن تشهد حرباً مفتوحة قد تمتدّ إلى المنطقة في ظلّ التهديد الإسرائيلي بشنّ حرب مدمّرة ضد حزب الله ولبنان.

لكن التطور البارز في حراك المجموعة الخماسية هذه المرة على مستوى السفراء تمهيداً لاجتماعها المرتقب على مستوى الممثّلين في الرياض أو القاهرة، هو أنّه انطلق بعد تشاور مع إيران تمثّل باللقاء الذي عقده السفير السعودي وليد البخاري في دارته مع السفير الإيراني مجتبى أماني، وذلك قبل أيام من اجتماعه مع نظرائه "الخماسيين" إذ وضعوا خريطة طريق المشاورات التي سيجرونها مع المسؤولين ومختلف القيادات اللبنانية المعنية بالاستحقاق الرئاسي لاستطلاع تصوراتها حيال هذا الاستحقاق، تمهيداً لإعداد تقرير يرفعونه إلى اللجنة. علماً أنّ زيارة السفير السعودي وكذلك السفير المصري علاء موسى لرئيس مجلس النواب نبيه برّي الأسبوع الماضي، كلّ على حدة، سبق اجتماع السفراء جميعاً في "الخيمة"عند البخاري.

وحسب مصدر ديبلوماسي، فإنّه لا يمكن الجزم بمشاركة إيران المباشرة في أعمال اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان، بعدما ظنّ البعض أنّها ستتحوّل سداسية في ضوء اللقاء بين البخاري وأماني، لكنّ مطلعين أكّدوا أنّ السفير الإيراني نقل إلى نظيره السعودي تصوّر طهران لـ"الحلّ الرئاسي" في لبنان على قاعدة أنّها كالمجموعة الخماسية تستعجل انتخاب رئيس للجمهورية للبنان لما لهذا الأمر من انعكاس إيجابي على مستقبله، لكنّها في الوقت نفسه لا تتدخّل ولا تطرح خيارات في شأن رئاسة الجمهورية، وهي في هذا الصدد تقف خلف حزب الله وحلفائه في ما يتّخذون من خيارات ولن تتدخّل فيها، ولم تتدخّل لا أصلاً ولا فرعاً.

ويلفت هؤلاء إلى أنّ إيران، على الرغم من عدم تدخّلها المباشر في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، فإنّها توليه أهمّية كبيرة، وتتابع مواقف الفرقاء السياسيين منه إلى جانب اهتمامها بحراك "الخماسية"، وأنّ اللقاءات التي يعقدها سفيرها في لبنان علناً أو بعيداً عن الأضواء، إنّما تصبّ في هذا الاتجاه، وقد كان منها أخيراً اجتماعه مع الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في عشاء بمقر السفارة، وهو عشاء كان بناء على رغبة الجانبين، لكن المبادر إليه كان الجانب الإيراني.

وفي حين يقول بعض المعنيين بالاستحقاق الرئاسي أن مصيره كان ولا يزال يتوقّف على طبيعة موقف "التيار الوطني الحر" أو "القوات اللبنانية" منه، فإنّ الوقائع تدل إلى أنّ هذين الموقفين لا يكفيان لإنجازه، وأنّ موقف الكتلة الجنبلاطية إذا انضم إلى أيّ منهما يمكن أن يكون المرجّح، بل قد يشكّل "بيضة القبان" التي ترجّح كفة هذا المرشح أو ذاك في العملية الانتخابية، ويمكن أيضاً أن تشكّل رأس جبل الجليد الذي إذا ذاب فسيعجّل حتماً في انتخاب الرئيس العتيد .

وفيما يسأل كثيرون عن طبيعة ما التقطته لواقط جنبلاط وراداراته السياسية، رأى البعض في حراكه الذي كان منه أخيراً العشاء العائلي الذي أقامه على شرف رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية وسبقه أو تلاه عشاؤه عند السفير الإيراني قبل استقبال البخاري للأخير، فإنّ ذلك يشير، في رأي البعض، إلى ارتفاع حظوظ فرنجية الرئاسية، وقد دلّ إلى ذلك ما عبّر عنه رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل قبل أيام من أن لا مانع لديه من وصول فرنجية أو قائد الجيش العماد جوزف عون إلى رئاسة الجمهورية إذا التزم أيّ منهما إقرار اللامركزية الإدارية الموسّعة وإقامة الصندوق السيادي، مع العلم أنّ باسيل يدرك أنّ هذين الأمرين هما مطلب الجميع وليس مطلب "التيار الوطني الحر" فقط. وقد ذهب البعض إلى القول إن باسيل أراد من كلامه هذا توجيه رسالة إلى المعنيين بأنّه اقترب من حسم خياره الرئاسي الذي قد يكون لمصلحة فرنجية، لأنّه قرأ جيداً أبعاد الحراك الجنبلاطي في اتجاه فرنجية وإيران بدليل كلامه على عدم ممانعته وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. علماً أنّ نائب "التيار" سليم عون قال على هامش الجلسة النيابية الأخيرة "أننا أبدينا استعدادنا للتعاون مع رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية في حال وصوله إلى رئاسة الجمهورية"، وذلك في معرض ردّه على اتهام التيار بتعطيل الاستحقاق الرئاسي.

في المقابل كان لافتاً تصعيد رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع موقفه ضدّ ترشيح فرنجية. إذ قال إن "حزب الله أصبح أكثر تشدّداً في موضوع الانتخابات الرئاسية بسبب ما يحصل في المنطقة اليوم. وإنّه لا يزال متمسّكاً بمرشّحه سليمان فرنجية وإنّ الجولات التي تحصل اليوم هي لمحاولة إقناعه بالذهاب إلى مرشّح ثالث". وأضاف "رئاسة الجمهورية ليست "تسوية أو شيخ صلح"، مرشّحنا اليوم جهاد أزعور، ونحن نعرف كيف نمنع وصول مرشّح حزب الله لرئاسة الجمهورية". وقال "وضعنا جهداً كبيراً للتمديد لجوزف عون على رأس قيادة الجيش، أمّا للرئاسة فلكلّ حادث حديث". محذّراً من أنّه "إذا وصل سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية فـ"الكلمة الكبيرة" ستكون للثنائي الشيعي، وعليه، سنبقى في مكاننا". وأشار إلى أنّ "سليمان فرنجية يعتقد أنّ لبنان لن يقوم إلّا بالتنسيق مع النظام السوري، لكن أنا متأكّد أنه "ما حدا خرب لبنان قدّ النظام السوري".

شيء جديد وكبير

في غضون ذلك، يقول مصدر مطّلع على الموقف الأميركي أنّ هناك شيئاً جديداً على مستوى كبير يحصل في المنطقة، وذلك في ضوء ما نشرته جريدة "وول ستريت جورنال" من أنّ الإدارة الأميركية تفكّر في خفض عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في العراق وسوريا، وهذا ما يوحي أنّها في صدد إجراء إعادة تموضع لقوّاتها في هذين البلدين قبل الانتخابات الرئاسية المقرّرة في تشرين الثاني المقبل.

ويرى المصدر نفسه أنّ هذا الخطوة الأميركية إذا حصلت فإنّها ستصبّ في مصلحة إيران بالدرجة الأولى، فالقوات الأميركية تعرّضت لعشرات الضربات في سوريا والعراق منذ عملية "طوفان الأقصى" ولم تستطع الردّ عليها بالمستوى المطلوب، ولكنّها في حال لجؤئها إلى ردّ كبير فقد لا تستفيد كثيراً في ظلّ الوضع الدقيق الذي تمرّ به إدارة الرئيس جو بايدن على المستوى الانتخابي وكذلك على مستوى الوضع السائد بينها وبين إسرائيل.

وفي هذا الوقت تشهد العلاقات السورية ـ السعودية مزيداً من التحسّن، حسب مطلعين على الموقف السوري، فإنّ المصدر عينه يؤكّد أنّ الانسحاب الأميركي من سوريا والعراق سيتم بالاتفاق مع إيران، وهو ما سيلقي بظلاله على الوضع في لبنان لأنّ هذا الاتفاق الاميركي ـ الإيراني سيولد لدى إسرائيل شعوراً بأنّ الانسحاب سيقويّ النفوذ الإيراني في شرق البحر المتوسط، وهو ما قد يدفعها إلى تنفيذ تهديدها بشنّ حرب انطلاقاً من جنوب لبنان.