بمشهدية دستورية افتقدها اللبنانيون طويلاً، التأم البرلمان للمناقشة والتصويت على مشروع قانون موازنة العام 2024. كالعادة، قامت الكتل النيابية بدورها التقليدي في تفريغ ما في جعبتها من انتقادات. ووزّع نوّابها من خارج لجنة المال الأدوار في ما بينهم على توجيه سهامهم الشعبوية إلى من أعدّ من الموازنة، بخطوة لا تذكر إلّا بمرض انفصام الشخصية. لتعود الأكثرية وتتفق على أنّ كحل الموازنة يبقى أرحم من عمى تغييبها والعودة إلى موازنة 2022 (موازنة 2023 لم تقرّ) والصّرف على القاعدة الاثني عشرية.   

جلسات مناقشة الموازنة التي ينتظرها المواطنون من عام إلى آخر لما تحمل من "أفشات"، أصبحت فولكلورية. فهي لا تضيف أيّ تغييرات جذرية بطريقة إعداد الموازنة، ولا بطولات في تعديلها من قبل لجنة المال. وعلى غرار ما سبقها، "تُحشى" بالضّرائب والرسوم غير المباشرة، وتُسقِط كلّ ما له علاقة بتأمين الإيرادات من خارج جيوب المستهلكين. وموازنة 2024 لم تشذّ عن هذا السياق على الرّغم من أنّ التعديلات تناولت 87 مادة من أصل 133، تضمّنتها النسخة الأساسية المرسلة من الحكومة، وإلغاء 46 مادّة، وإضافة 14 مادّة.  

إلغاء مواد ينقل العبء إلى كاهل المستهلكين 

"من المواد الأساسية الملغاة من قبل لجنة المال والموازنة النيابية تبرز المادّة 125 التي نصّت على فرض ضريبة استثنائية بنسبة 17 في المئة على الأفراد والمؤسّسات التي حقّقت أرباحاً من منصّة صيرفة"، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. والإبقاء على هذه المادّة كان كفيلاً بتأمين حوالى ثلث إيرادات الموازنة على أقلّ تعديل. فنسبة الأرباح المحقّقة من حجم التداول على صيرفة الذي بلغ نحو 25 مليار دولار، لا تقلّ عن 5 مليارات دولار. وعليه، فإنّ فرض ضريبة بنسبة 17 في المئة على هذه الأرباح يحقّق عائداً مقداره 800 مليون دولار من أصل إيرادات مقدارها 3.3 مليار دولار متوقّعة في موازنة 2024".  

بالإضافة إلى إلغاء المادّة 125، أبقت لجنة المال والموازنة الرسوم على إجازات العمل التي تعطيها وزارة العمل للعمّال العرب والأجانب كما هي من دون أيّة زيادة. وهو ما يقود، بحسب شمس الدين، للقول إنّه "بذريعة تخفيض الضرائب والرسوم على المواطنين، خفّضنا الضرائب والرسوم التي كانت تستهدف كبار المتموّلين. وهو ما يظهر زيف العمل الذي قامت به لجنة المال والموازنة". إذ عدا إضافة رسوم وضرائب جديدة، ارتفعت الضرائب المعمول بها بمقدار راوح بين 10 و30 ضعفاً. فتمّ الإبقاء على مضاعفة رسوم السير 10 مرّات، ورفع الرسم على السجلّ العدلي إلى 200 ألف ليرة. وبقي رسم الميكانيك على حاله. ووُضع رسم على إيصال الهاتف بقيمة 100 ألف ليرة ليبلغ مجموع الرسم على الهاتف الثابت 330 ألفاً وإن لم تُجرَ أيّ مخابرة. ورُفعت الرسوم على براءة الاختراع ارتفاعاً متدرّجاً من 4.6 مليون ليرة وصولاً إلى 48 مليوناً. وارتفعت القيم التأجيرية ارتفاعًا راوح بين 10 و20 مرة. ووضعت رسوم استهلاك داخلي بشكل كبير على المشروبات الروحية.  

تأجيل التبادل الضريبي 

من المواد المهمّة أيضاً التي ألغتها لجنة المال والموازنة من مشروع الحكومة، المادّة 58 التي نصّت على تحصيل الضريبة من إيرادات الأموال المنقولة وغير المنقولة للبنانيين في الخارج والمقيمين في لبنان. وتعدّ هذه الضريبة المعتمدة في جميع الدول التي تنضوي تحت اتفاقية "معيار الإبلاغ المشترك" – CRS واحدة من أهمّ الضرائب، ليس بسبب مردودها الكبير فحسب، إنّما بسبب إمكان كشف مصدر ثروات اللبنانيين في الخارج، وما إذا كانت ناتجة من تهريب الأموال أو الاختلاس أو استغلال النفوذ. وعليه، تصبح هذه الضريبة "كاشفة" للفساد وركناً أساسياً من أركان استعادة الأموال غير المشروعة. والجدير بالذكر أنّ لبنان لا يزال يعرقل تطبيق تنفيذ هذه الاتفاقية رغم وصوله إلى المراحل الأخيرة في الإعداد لها.  

إزاء هذا الواقع، رأى اللقاء الوطني للإنقاذ* في بيان أنّ "موازنة الدولة للعام 2024 هي أسوأ الموازنات على الإطلاق، لأنّها تعدّ في خضمّ انهيار اقتصادي مالي نقدي معيشي. وبدلاً من أن تكون الموازنة أداة للإنقاذ، جاءت اليوم لتوسعة الانهيار الشامل وتعميقه، ولتغطّي بشكل كامل على جرائم المنظومة الحاكمة التي سطت على المال العام والخاص". وبالأرقام فإنّ  السّلطة زادت الإنفاق العام من 41 ألف مليار ل. ل. عام 2022 الى 301 ألف مليار ل. ل. في العام 2024، أي بزيادة مقدارها 634 في المئة، منها 95 في المئة نفقات استهلاكية و5 في المئة نفقات على البنى التحتية فقط. وهذا يشير إلى أنّها تركت على المواطن عبء تأمين خدمات المياه والكهرباء والمواصلات والاتصالات والطرق والمباني الحكومية من ماله الخاص مع إلزامه بدفع رسوم هذه الخدمات شبه المعدومة، والتي رُفعت إلى ما بين 30 و50 ضعفاً، وهي أعباء إضافية من خارج الموازنة. 

كذلك خصص مشروع الموازنة لموظّفي القطاع العام حوالى 60 في المئة من الإنفاق العام، إلّا أنّ هذه الرواتب والأجور تساوي 29 في المئة من القدرة الشرائية للرواتب مثلما كانت عام 2019، كما عمدت إلى تخفيض الاعتمادات المخصّصة للتعليم من 8.7 في المئة الى 3.41 في المئة، وفي المقابل، فرضت زيادة مفرطة في الضرائب والرسوم وصلت إلى 259 ألف مليار ل. ل. فعمدت إلى زيادة الضريبة على الأرباح بنسبة 479 في المئة، والضريبة على الرواتب 293 في المئة، والضريبة على الإرث 2900 في المئة والرسوم العقارية 2727 في المئة، والضريبة على القيمة المضافة 1514 في المئة، والرسوم الجمركية 738 في المئة، والرسوم على السيارات 1464 في المئة، ورسم الطابع المالي 1326 في المئة ورسوم المرفأ 1044 في المئة، وهذه الزيادة تكوّن العبء الأكبر على موازنة الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل وتشكّل 80 في المئة من إيرادات الموازنة، بينما نسب الزيادة على الضرائب المباشرة، والتي يتحمّل عبئها الأغنياء، أتت منخفضة ممثلةً حوالى 20 في المئة. كما سارعت لجنة المال والموازنة إلى زيادة الضرائب والرسوم من 259 ألف مليار كما ورد في مشروع الحكومة إلى 295 ألف مليار ل.ل، أي بزيادة مقدارها 36 ألف مليار ل. ل. وهذه الزيادة تشمل الضرائب على الفقراء ومتوسّطي الحال فحسب.  

يظهر بالأرقام وبشكل واضح لا لبس فيه اعتماد الإيرادات في الموازنة على المستهلكين، وتحييدها الأثرياء وأصحاب المداخيل الكبيرة وكلّ من استفاد من أعمال الريع السرقة والاختلاس. الأمر الذي سيعمّق الانكماش من جهة ويقلّل من فرص تحيل الإيرادات بسبب عجز المواطنين وارتفاع نسب التهرّب وزيادة معدّلات البطالة.  

*يتشكل اللقاء الوطني للإنقاذ من د. عصام نعمان، المحامي عمر الزين، د. زينب عثمان، حيدر سركيس، النقيب أمين صالح، توفيق مهنا، د. بسام الهاشم،محمد حشيشو، هشام أبو جوده، محمود فقيه، رياض عيد، رياض صوما.