ظلّ رفع قيمة تعويضات نهاية الخدمة، حتّى الأمس القريب، "سراباً" يطارده العمّال من دون أمل. عبثاً حاول المضمونون خلال سنوات الانهيار، استشراف مستقبل مدخّراتهم بتصريحات المسؤولين ومشاريع القوانين المقدّمة. كثيرون يئسوا وسحبوا تعويضاتهم على سعر الصرف البائد، أو بدأوا الإعداد لسحبها رغم فداحة الخسائر، خصوصاً من بعد التوصّل إلى اتّفاق يسمح بتسديد التعويض دفعة واحدة من قبل المصارف. ولم يوح أحد من المسؤولين، أو حتّى يتوقّع، تعديل طريقة احتساب التعويضات، إلى أن لمعت المادّة 93 من مشروع موازنة العام 2024.   

بشكل مفاجئ، ومن خارج سياق التداول، أضافت لجنة المال والموازنة النيابية أثناء دراستها مشروع موازنة 2024 مادّة حملت الرقم 93، تقول بالحرف: "يُحتسب تعويض نهاية الخدمة بما يعادل عن كلّ سنة خدمة، الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة خلال شهر كانون الأول 2023 عن سنوات الخدمة لما قبل 31 كانون الاول 2023، على أساس 15 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد. كما يعدّل عن كلّ سنة خدمة، الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة خلال شهر كانون الأول من كلّ عام، أو خلال الشهر الذي سبق تاريخ نشوء الحقّ بالتعويض بعد الأول من كانون الثاني 2024، عن كلّ سنة خدمة، محتسباً وفقاً لأحكام قانون الضمان الاجتماعي".  

بـ "العربي"، ماذا تعني هذه المادة؟  

تُقسّم المادّة 93 تعويضات نهاية الخدمة إلى شقّين:  

  • الأول، يتعلّق بالتعويضات التي تعود إلى ما قبل نهاية العام 2023. ويتمّ احتسابها على الشكل التالي: يُقسم تعويض نهاية الخدمة المستحق على 1500 ليرة، ويضرب بـ 15 ألف ليرة. فيكون قد تضاعف 10 مرّات. وللمثال فإنّ تعويضاً بقيمة 100 مليون ليرة يصبح 66,6 ألف دولار، ومن ثم يضرب بـ 15 ألف ليرة، وهو سعر الصرف الرسمي المعتمد حالياً، فتصبح قيمة التعويض 1 مليار ليرة. أو تسهيلاً للحسابات يمكن ضرب تعويض نهاية الخدمة برقم 10 مباشرة، فنصل إلى النتيجة نفسها.    
  • الثاني، التعويضات التي تستحقّ ابتداء من مطلع العام 2024. تُحتسب على أساس الرّاتب الفعلي الذي تقاضاه الأجير مضروباً بعدد سنوات الخدمة.  

 

ضرورة تحييد صندوق الضمان من عملية التمويل، لأنّ الصندوق لا يملك في الحساب الإفرادي إلّا الاشتراكات والفوائد المتراكمة عليها لكلّ مضمون

إشكالية احتساب التعويضات 

للوهلة الأولى، تظهر هذه المادة، كأنّها "الحلم" الذي طال انتظار تحقّقه. إلّا أنّ التعمّق فيها يكشف عن إشكاليات عميقة قد تحول دون تطبيقها"، بحسب المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي. "وتتمثّل في الجهة التي ستغطّي الفرق في التعويضات، والأثر النقدي الذي سيتركه ضخّ مثل هذه الكمّيات الكبيرة من الليرات على استقرار سعر الصرف، وقدرة المؤسسات على تحمّل الفروقات". وبالعودة إلى مثالنا المذكور، فإنّ مضاعفة التعويض للمضمون 10 مرّات، من 100 مليون ليرة إلى مليار، يسبب فجوة بقيمة 900 مليون ليرة. والضمان الاجتماعي، في الأساس، لا يملك من التعويض قبل تعديله، إلّا 60 مليون ليرة بين اشتراكات وفوائد، ويتمّ تأمين الباقي بمعاملات التسوية مع المؤسسات من أجل تسديد التعويض. وعليه من سيدفع فرق العشرة أضعاف أو الـ 900 مليون ليرة، بحسب مثالنا؟ هناك احتمال من أربعة يجيب كركي: "إمّا الضمان الاجتماعي، وإمّا أصحاب العمل، وإمّا الدولة، وإمّا مصرف لبنان. وفي الحالات الأربع يظهر أنّ هناك شبه استحالة للإيفاء بمثل هذا الالتزام. فالضمان لا قدرة له على تسديد أيّ ليرة إضافية فوق المبالغ المجمّعة لديه. والمؤسسات الخاصة قدراتها محدودة، والموضوع لم يناقش معها في الأصل. في حين أن الدولة عاجزة، ومصرف لبنان يتحاشى ضخ سيولة بالليرة اللبنانية في السوق للحفاظ على استقرار سعر الصرف". مع العلم أنّه في الحالة الأخيرة قد ينعكس الوضع إيجاباً على المضمونين، وتحديداً على الفئة التي تعتزم سحب تعويضها قريباً. "بينما لم تُجرَ دراسة إكتوارية تبيّن الأثر الاقتصادي والاجتماعي والنقدي على المدَيْن المتوسّط والبعيد"، من وجهة نظر كركي. "خصوصاً أنّنا فوجئنا بهذه المادة، مثلنا مثل المضمونين". 

الهيئات الاقتصادية موافقة على بياض 

انطلاقاً من هذا الواقع، لا يمكن الارتجال في ما يتعلق بكيفية احتساب تعويضات نهاية الخدمة قبل إجراء الدراسات الاكتوارية التي من شأنها إظهار الانعكاسات على الأجير ورب العمل، وعلى الوضع العام. ومن الأفضل بحسب كركي "التريّث بإقرار القانون إلى حين إنجاز الدراسات ومعرفة خلفياته، وإن كان سيصبّ في مصلحة المضمونين والضمان. وأن يترافق مع وضع نصّ قابل للتطبيق وليس نصّاً شعبوياً لا أحد يتحمّل مسؤولية أبوّته". كركي الذي يشدد على أهمّية زيادة التعويضات ويذكّر بالمساعي مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة على دعم التعويضات باحتسابها على 3600 ليرة و8000 ومن ثم 15000، لفت إلى ضرورة تحييد صندوق الضمان من عملية التمويل، لأنّ الصندوق لا يملك في الحساب الإفرادي إلّا الاشتراكات والفوائد المتراكمة عليها لكلّ مضمون.   

مصادر الهيئات الاقتصادية الممثّلة للمؤسّسات فضّلت عدم التعليق على هذه المادّة باعتبار أنّ "هذا هو المطلوب، ما قبل وما بعد 31 كانون الأول 2023". واكتفت بالتذكير ببيانها المنشور الذي تناشد فيه النواب "حضور جلسات المناقشة والتصويت على الموازنة بالتعديلات التي أجريت عليها، منعاً لإصدارها بمرسوم أو العودة إلى موازنة 2022". فهل يعتبر هذا التصريح موافقة على بياض على كلّ بنود الموازنة وموادها، ومن ضمنها المادة 93 أو أنّ هناك قطبة مخفيّة لإسقاط هذا البند من الموازنة بحجّة عدم قابليته للتطبيق وإخضاعه إلى مزيد من البحث والتحليل؟ في جميع الحالات فإنّ غداً لناظره قريب.  

منذ بدء الانهيار نهاية العام 2019، واللبنانيون يعيشون في ظلّ "اقتصاد الكازينو"، casino economy. وبمعزل عمّا يعنيه هذا المفهوم للحالة التي يكون فيها جمع الأموال عن طريق الأدوات المالية أكثر أهمّية من الأرباح التي يمكن أن تتحقّق من إنتاج السلع، فإنّ الربح والخسارة يحدّدهما عامل الحظّ. فالتسليم جدلاً بإمكان رفع قيمة التعويضات عن السنوات السابقة للعام 2023، يعني أن آلاف المضمونين ممّن سحبوا تعويضاتهم أخيراً خسروا مبالغ طائلة. من يعوّض عليهم ومن يعيد حقوقهم؟ ببساطة لا أحد وهذا هو اقتصاد الكازينو.