تجربةً بعد أخرى، واستحقاقاً بعد آخر، يتكشّف الصّراع في الشرق الأوسط، وتحديداً مشهد الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية، عن سياسات واستراتيجيات كانت سابقاً موضع تكهّن وشكّ واحتمال، وباتت بعد التطورات الأخيرة أقرب إلى مسار الوقائع والحقائق.

وتحتلّ الجمهورية الإسلامية في إيران صدارة هذا المشهد الآن، لجهة الدوافع والمحرّكات التي تحكم علاقاتها مع دول الجوار المحيطة بها ومع العالم العربي، وموقفها الفعلي من حرب غزة بمجرياتها ومآلاتها، وحقيقة عدائها لإسرائيل، والأهداف التى تسعى إليها.

لا يختلف مراقبان حول انتهازية طهران في استثمار مأساة غزة ضمن أجندا المصالح وبنك المكتسبات التي ترمي إلى جَنيها عبر المساومات مع الولايات المتحدة وسائر الغرب، واكتفائها بحرب النظّارت والبيانات والمواقف الاعلامية، مع السماح لأذرعها بوظيفة "المشاغلات" من اليمن والعراق ولبنان تحت سقف عدم تورّطها المباشر في حرب واسعة تُطيح هذه المكتسبات، السابق منها الموجود، واللاحق الموعود.

وللتغطية على انسحابها من الحرب المباشرة عمدت إلى خلق بؤر توتر أخرى، كان البحر الأحمر ساحتها الأولى، وكردستان العراق ساحتها الثانية، وباكستان ساحتها الثالثة، وهي ساحات "إشغال" منفصلة عن حرب غزة والقضية الفلسطينية، ومرتبطة مباشرة باستراتيجية علاقتها مع الغرب، سلباً أو إيجاباً، طرداً أو عكساً، لحماية ميادين نفوذها وتحصيل أرباح جديدة إذا سمحت الفرص والتوازنات والتسويات.

ولكنّ طهران، بفعل انكشاف موقفها الدعائي الانتهازي في القضية الفلسطينية، تجازف بهدر ما حاولت تجميعه خلال سنوات في نسج علاقات مع بيئات إسلامية سنّية، خصوصاً البيئة الفلسطينية، وتحديداً حركتَي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ولدى سُنّة لبنان بما سُمّي "سرايا المقاومة" واختراع تشكيلات مسلّحة تحت تسميات شتّى، والآن مع البيئة الكردية في العراق، ومع باكستان الدولة السنّية المركزية، فضلاً عن علاقتها الملتبسة والباردة مع أفغانستان، وحتّى مع جارتها أذربيجان ذات الطابع الشيعي، ناهيك عن العلاقة الحذرة، بل غير الودية، مع معظم الدول العربية من الخليج إلى الأردن ومصر وصولاً إلى المغرب، وراهناً مع العراق الذي لم يتردّد في اتهام طهران بالعجز عن مواجهة إسرائيل وبتصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج.

ولا يعوّض موقف تركيا "المتفهّم" والداعي إلى التهدئة في مثلث باكستان إيران العراق، على خلفيتها الصدامية مع الأكراد، الشيء الكثير من هذا الهدر والخسائر في علاقات إيران مع محيطها اللصيق أو البعيد.

ومن هنا، يطرح العرب، وفي مقدّمهم الفلسطينيون المحسوبون على "محور المقاومة والممانعة"، تساؤلات محقّة عمّا ترتكبه طهران من أذى للقضية الفلسطينية وخصوصاً قضية غزة، بجعلها مجرد حلقة في صراعات المنطقة وسحبها من صدارة الأولويات الإقليمية والدولية، مع إشارتهم إلى أن إسرائيل تنفذ اغتيالات في دمشق وضاحية بيروت والجنوب فترد إيران في أربيل وإدلب وباكستان، متذرعةً ب"الصبر الاستراتيجي".

ويطرح هؤلاء أسئلة وجيهة:

بماذا يخدم القصف الصاروخي الإيراني على أربيل وفتح مشكلة مع العراق بحجّة وجود "موسّاد"، معاناة غزة؟ وكذلك الصراع مع باكستان برعايتها منظمات معادية لإسلام أباد وقصف أرض باكستانية؟ وحتى قرصنة التجارة البحرية الدولية عبر البحر الأحمر وباب المندب، ومناوشات غير مجدية مع قواعد أميركية في العراق وسوريا؟ بل ماذا تقدّم إيران للفلسطينيين بتغطيتها صمت نظام بشار الأسد وتبرير غيابه المطلق عمّا يتعرّض له الشعب الفلسطيني، وكأنّه ليس من "وحدة الساحات"؟!

لا تكفي أصوات سنّية متفرّقة في العراق تؤيد إيران لسبب مصلحي، أو في لبنان حتّى ولو كان الصوت من موقع رئاسة حكومة تصريف أعمال يعترف بعجزه عن امتلاك قرار الحرب أو السلم ويسلّم بخطورة ربط مصير لبنان بغزة، وكذلك أصوات معزولة من دول عربية وإسلامية أُخرى، كي تربح إيران عطفاً شعبياً وسياسياً يساندها في مواجهاتها الاستراتيجية الواسعة.

فلا شيء غير الصدق في التزام قضايا الحق يُريح صاحبه ويمنحه تسجيل الانجازات، وهذا "الصدق الإيراني" بات موضع شك قوي بعد الممارسات الأخيرة، وتدشين نزاعات بعيدة عن الهم الفلسطيني.

ولا تستطيع إيران أن تحقق طموحها كدولة إقليمية عظمى باستعدائها معظم جيرانها، وبرفع الشعارات والتسميات الخُلّبية الترويجية الخالية من الصدقية، وأبرزها ثلاثة: إزالة إسرائيل وتحرير فلسطين وتسمية "فيلق القدس".

من حق إيران أن تُجَدول أولوياتها وفقاً لمصالحها، ولكن لم يعُد في وسعها ادّعاء محاربة إسرائيل، وأن أولويتها فلسطين، وأن تستثمر في ربط أذرعها بمصير غزة، كما تفعل بذراعها الطويلة في لبنان.

فواقعياً وميدانياً لم يعد هناك خط تماس بينها وبين إسرائيل سوى جنوب لبنان، وقد تحوّل إلى خط "إشغال" سياسي توظيفي تكسّبي أكثر ممّا هو حربي لمساندة غزة، ووظيفته استرهان الملف اللبناني لمساوماتها الإقليمية الدولية الكبرى ولمحاولاتها فك عزلتها المذهبية والسياسية والعسكرية، مع استثناء إمكان لجوئها للهروب إلى الأمام بإعطاء "حزب اللّه" الإذن بفتح حرب واسعة، وهو إمكان وارد إذا اعتبرت أنه وسيلة ناجعة لكسر الطوق الذي فرضته على نفسها.