أضاع العرب والمسلمون فرصة جديدة لحلّ القضية الفلسطينية بشروط مشرّفة...

كان المأمول من قمّتي الرياض العربية والإسلامية اللتين دُمجتا في اللحظة الأخيرة بقمّة واحدة عربية ـ إسلامية جمعت قادة غالبية الدّول العربيّة ودول منظّمة التعاون الإسلامي، أن تصدر عنها مواقف عمليّة زاجرة لإسرائيل لوقف المجازر التي ترتكتبها بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة، كما في الضفّة الغربية، ولكنّ هذه المواقف جاءت مطالب دولٍ تملك الفعل إن أرادت لا المطالبة، والطّلب ممن؟ من كيان يحتلّ فلسطين، ومن الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الذين يرعونه ويحمونه ويمدّونه بكلّ أنواع الدّعم منذ نشأته عام 1948.

ولو أرادت هذه الدول أن تفعل، يقول راسخون في علوم القمم العربية والإسلامية، لبادرت إلى اتّخاذ إجراءات فورية ضدّ إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركية وحلفائهما، تبدأ باستخدام سلاح النّفط مثلما فعلت السعودية أيام حرب 1973 ومدّ المقاومة الفلسطينية بالدعم العسكري والمادّي السريع والفاعل، ممسكة بأوراق المقاومة في فلسطين المحتلّة ولبنان للضغّط وفرض حلّ عادل للقضيّة الفلسطينية، تحت طائلة الاستمرار في المقاومة ودعمها من الآن وصاعداً إن رفضت اسرائيل وداعميها القبول بهذا الحلّ، وهو في الحدّ الأدنى ما تضمّنته المبادرة العربية للسلام السعودية المنشأ، والتي أقرّتها قمّة بيروت العربية عام 2002، والذي يقوم على مبدأ "الأرض مقابل السلام" بحيث تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلّة إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، وتكون للفلسطينين دولتهم المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقيّة.

ما بعد حرب غزة سيكون أهمّ ممّا قبلها، لأنّنا لم نر شيئاً منه حتّى الآن إلّا البدايات

ولذلك، يضيف هؤلاء الرّاسخون في علم القمم، أضاع العرب والمسلمون فرصة جديدة لحلّ القضية الفلسطينية بشروط مشرّفة، فطالبوا بوقف لإطلاق النار وتنفيذ "حلّ الدولتين" الذي رعت الولايات المتحدة الاميركية الاتفاق عليه إثر انتهاء مفاوضات أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وذهب ضحيته لاحقاً رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على يد متطرفين يهود عارضوا "اتفاق اوسلو"، ولا زالت إسرائيل تماطل وتعارض تنفيذه بكلّ حذافيره منذ نحو 30 عاماً، وهي لا يمكن أن تلتزم به ما لم يكن لواشنطن دور فاعل وضاغط، كان العرب وما زالوا ينتظرونه منها، فيما هي غالباً لم تلعب دور "الوسيط النزيه"، وإنّما تلعب دور المنحاز إلى جانب إسرائيل في أيّ مفاوضات أو اتّفاقات، والتي كان آخرها الاتّفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل العام الماضي.

إلى ذلك، يؤكّد ديبلوماسي خبير في المواقف الأميركية والدولية أنّ ما بعد حرب غزة سيكون أهمّ ممّا قبلها، لأنّنا لم نر شيئاً منه حتّى الآن إلّا البدايات، لأنّ هذه الحرب أحدثت تفاعلات كثيرة على الصّعيد الدولي، وأدخلت العالم في مرحلة جديدة على مستوى العلاقات بين الدول والمحاور، نظراً لتضامن الرأي العام الدولي مع الفلسطينيين وقضيتهم، حتّى في الدول التي لطالما ساندت إسرائيل على مدار النزاع العربي ـ الإسرائيلي منذ بدايته وحتّى اليوم.

وما يقصده هذا الديبلوماسي هو أنّ إسرائيل ستكون حتماً غير ما كانت عليه قبل "طوفان الأقصى" لأنّ كلّ الذرائع التي قدمتها للعالم على أنّها دولة مهدّدة بوجودها من محيطها بدأ ينكشف عدم صحّتها أمام الرّأي العام العالمي، بدليل الضغوط الدولية التي بدأت تمارس عليها وتحرج داعميها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية أمام المجتمع الدولي، إذ لم يشهد العالم مثل التظاهرات الضخمة التي تنطلق في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واستراليا وغيرها، ما يدلّ إلى أنّ الرأي العالم الدولي بدأ ينقلب على إسرائيل وداعميها بنحو غير مسبوق في ضوء المجازر التي ترتكبها بحق سكّان غزة، وما يرافقها من تدمير شامل للأحياء السكنية المدنية وقصف للمستشفيات، إذ لم يعد أحد مقتنعاً أنّ ما تمارسه إسرائيل ضدّ غزة هو مجرد انتقام من حركة "حماس" وأخواتها لتنفيذها عملية "طوفان الاقصى" في منطقة غلاف غزة في 7 تشرين الأول الماضي، وإنّما تعدّاه إلى حرب إبادة وتطهير عرقي لا يمكن الرأي العام الدولي أن يقبل به.

ويتوقّع الديبلوماسي أن تعود إسرائيل في قابل الأيام إلى تصعيد حملة تحت عنوان اتّهام الآخرين بـ"معاداة السامية"، والساميّون في معتقدها هم اليهود قبل أيّ قوم ساميين آخرين بمن فيهم العرب الذين "ينتمون الى سام بن نوح ليعرب بن قحطان وهم سكّان شبه الجزيرة العربية"، على حدّ ما علّمته كتب التّاريخ لكلّ الأجيال العربية قاطبة.

ولكن بمجرّد حصول وقف إطلاق النار، يقول مسؤول كبير شارك في القمّة العربية ـ الإسلامية الطّارئة في الرياض، إنّ "دفتر حساب" سيفتح داخلياً في إسرائيل ودوليّاً في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا، بدليل تراجع مسؤولي هذه الدول عن دعم إسرائيل الذي محضوها إيّاه في الأيام الأولى للحرب إثر السابع من تشرين الأول الماضي، وأول المتراجعين هم الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته، التي باتت تواجه حراجة دولية كبرى إزاء استمرار إسرائيل في ارتكاب المجازر ضد البشر والحجر في غزة، فبعد أن كان "البيت الأبيض" يتحدّث عن "هدن إنسانية" مؤقّتة ويرفض إعلان وقف للنّار لأنّ "حماس" تستفيد منه للاستعداد لجولة حربية جديدة، بدأ المسؤولون الأميركيون يتحدّثون عن وقف لاطلاق النّار، خصوصاً وأنّ إسرائيل فشلت على ما يبدو في تحقيق "الانتصار" الذي وعدت نفسها به طوال أكثر من شهر، والأمر نفسه ينطبق على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان دعا خلال لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله إلى "تحالف دولي" للقضاء على حركة "حماس" المصنّفة غربياً "منظّمة إرهابية"، وها هو الآن يتراجع أمام هول المجازر ليطالب بوقف النار في غزة معارضاً ما ترتكبه إسرائيل من جرائم، وكلّ ذلك يحصل دولياً تحت وطأة التظاهرات الضخمة المؤيّدة للفلسطينيين.

وفي اعتقاد هذا الديبلوماسي أنّ مصير كلّ من بايدن وماكرون وبنيامين نتنياهو بات مهدداً، وسيكون موضع بحث إثر توقّف اطلاق النار في غزّة، حتّى أنّ مصير بايدن الانتخابي وكذلك مصير منافسه دونالد ترامب هو في خطر، بل أنّه لن يكون له أن يفوز بولاية رئاسية جديدة، وكذلك ترامب الذي يسابق الوقت ويطمح إلى تأخير ملاحقاته القضائية إلى ما بعد الانتخابات علّه يفوز بها، فيما كلّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنّ الرئاسة الأميركية في أواخر عام 2024 ستؤول إلى خيار ثالث.

أمّا إسرائيل فهي ذاهبة إلى واقع آخر لن يكون لنتنياهو وجوداً فيه، فضلاً عن أنّها ككيان مأزوم ويعلن أركانه أنّهم يخوضون "حرباً وجودية" فإنّ مصيرها سيكون قيد البحث، لأنّ مشروع "حل الدولتين" جعله "طوفان الأقصى" قيد البحث والمفتوح على الرفض لدى الجانب الفلسطيني الذي كسر هيبة "الدولة التي لا تقهر" و"الجيش الذي لا يهزم"، وبات في موقع يشعره أنّه هو يفرض الشروط بعدما كان في موقع المتلقّي والعاجز عن رفضها أو قول الـ "لا" في وجه الإسرائيلي وحلفائه الغربيين طول سنوات النزاع منذ العام 1948 وحتى عشية "طوفان".

واليوم، يعطي الاسرائيلي نفسه مهلة اسبوعين لينجز ما بدأ في غزة قبل ان يتغير الموقف الدوالي منه على حد ما اعلن وزير خارجيته ايلي كوعين، ولكن السؤال هو هل سيكون له ما يريد من "انتصار" يستعيد به هيبته ويرضي المجتمع الإسرائيلي الذي فقد ثقته بدولته التي لطالما تغنّت بقوّة ردع لا يملكها أحد غيرها في المنطقة؟

على أنّ التطورات في الميدان تشي أنّ الاسرائيلي ماض الى مزيد من الغرق في رمال غزّة المتحركة، إذ لم يظهر حتّى الآن أنّه حقّق أيّ إنجاز عسكري ملموس، سوى استمراره في ارتكاب المجازر وتدمير الأحياء السكنية في قطاع غزة المعروف بأنه الأكثر كثافة سكانياً في العالم، في الوقت الذي لم تسجّل أيّ تقارير عن إلحاق هزائم عسكرية ملموسة بحركة "حماس" وأخواتها التي تخوض معارك بطريقة لم يدرك الإسرائيليون أسرارها بعد، فهي تصطاد آلياتهم وجنودهم، ولم يعلنوا إلى الآن أيّ صورة لقتيل أو أسير لحماس بعد، فيما تبدو بيانات وتصريحات متحدّثهم العسكري مجرّد كلام غير مقرون بأيّ أدلّة ملموسة.