خلافاً لكلّ ما يشاع ويقال هنا وهناك وهنالك، وقطعاً لدابر التكهّنات والتوقّعات والانفعالات عند كلّ حدث أو موقف أو لقاء، فإنّ كرة الاستحقاق الرئاسي كانت ولا تزال وستبقى في الملعبين الأميركي والسعودي، إلى أن تسدّد في "المرمي اللبناني" في المبارة السياسية ـ الانتخابية النّهائية التي بدأ يقترب موعدها ويجري التحضير لها داخل ملاعب صغيرة مقفلة بـ"ألعاب ديبلوماسية سويدية" على سبيل "التحمية ـ المناورة" لتحقيق المكاسب قبل إعلان الفريق الفائز، أو المؤهّل للفوز، بمرشحه... ولات ساعة مندم...     

في كلّ مرة يزور فيها الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لبنان يتعرّض ما يحمله من اقتراحات وأفكار في شأن الاستحقاق الرئاسي لتفسيرات وتأويلات متناقضة، فتأتي الأحداث لاحقاً لتثبت عدم صحّتها، أو دقّتها، ويعود الرهان على زيارته الجديدة وما يمكن أن يحمله خلالها، مثلما هي حاله الآن في نهاية زيارته الثالثة والتي وعد خلالها بالعودة في زيارة رابعة قبل نهاية الشهر الجاري، على الأرجح، في ضوء نتائج اجتماع الخماسية العربية الدولية في نيويورك.

وخلال زيارته الأخيرة لبيروت حرص لودريان، حسب بعض الذين التقوه، على التأكيد لجميع الذين التقاهم أنّ بلاده هي على "تنسيق تام ونظرة واحدة" مع المملكة العربية لسعودية في شأن لبنان واستحقاقاته، وأن ليس هناك أيّ اجتهاد فرنسي خاص خارج هذا التنسيق، ما دلّ إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية وقطر، وربما مصر أيضاً، على طرف نقيض لهذا التنسيق السعودي ـ الفرنسي، أو أنّ المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية برمّتها لم ترس بعد على خيار محدّد إزاء الاستحقاقات اللبنانية، وأنّه لا يزال أمامها هامش من الوقت قبل أن تتخذ هذا الخيار.

كلّ من الفريقين المتنافسين فهم أو فسّر كلام لودريان وفق مصلحته وتوجهاتها وخياراته في شأن الاستحقاق الرئاسي

فما حمله لودريان وتحدّث فيه مع الجميع، يوضح هؤلاء، يتلخّص بقوله أنّ الفريقين السياسيين اللبنانيين المتنافسين في معركة انتخابات رئاسة الجمهورية ليس في استطاعة أيّ منهما الفوز بمرشّحه، واستدل إلى ذلك من نتائج جلسة الانتخابات الرئاسية في 14 حزيران الماضي التي تنافس خلالها رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية يدعمه "الثنائي الشيعي" وحلفائه، والوزير السابق جهاد أزعور يدعمه فريق المعارضة و"التيار الوطني الحر"، وكانت النتيجة عدم فوز أيّ منهما في الدورة الانتخابية، ثم طار النصاب القانوني للجلسة ما حال دون إجراء الدّورة الانتخابية الثانية، وفي هذه الحال، قال لودريان لمحدّثيه، أنّ على الجميع الذهاب إلى التحاور أو التشاور أو تحت أيّ مسمّى آخر للاتفاق على مرشّح وأكثر وانتخاب رئيس جمهورية جديد للبلاد، ولم يقل بسقوط ترشيحي فرنجية وأزعور أو غيرهما على الإطلاق.

لكن كلّ من الفريقين المتنافسين فهم أو فسّر كلام لودريان وفق مصلحته وتوجهاتها وخياراته في شأن الاستحقاق الرئاسي، ففريق المعارضة اعتبر أنّ لودريان أكّد سقوط ترشيحي فرنجية وأزعور ودعا إلى خيار ثالث. في حين أنّ "الثنائي الشيعي" وحلفائه اعتبروا أنّ لودريان لم يسقط اي ترشيحات ولكنّه دعا الأفرقاء جميعاً إلى التحاور أو التشاور أو التوافق على انجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن يدخل في أسماء مرشحين. وفي رأي هؤلاء أنّ الامر لو كان غير ذلك لما أبلغ لودريان إلى الجميع أنّه عائد مجدّداً إلى لبنان بعد أن يكون شارك في اجتماع المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية على مستوى وزراء الخارجية على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، ولو أنّه كان يقصد ما ذهب إليه فريق المعارضة من تفسير لكلامه لكان تدخّل في الأسماء وجعل بلاده طرفاً في استحقاق يصرّ الفرنسيون ومعهم السعوديون على اعتباره شأناً داخلياً يعود إلى اللبنانيين أنفسهم ولن تتدخّل الرياض وباريس فيه.

لكن الذين تتبّعوا وقائع زيارة لودريان وبعضهم شارك في لقاءاته مع مختلف الأطراف، قالوا أنّ الاستحقاق الرئاسي دخل في مدار الإنجاز في وقت ليس ببعيد، وذلك بالاستناد إلى أنّ ما يدور في الكواليس، وخصوصاً الخارجية منها، ينمّ عن توصّل المعنيين إلى اقتناع بأنّ معالجة الأزمة اللبنانية لم تعد قابلة للتأجيل أكثر فأكثر، وبات المطلوب، وفق نصيحة إيرانية، المساعدة على توفيرها، وقيل أنّ هذه النصيحة سمعها الجانب السعودي خلال محادثات وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان الأخيرة في الرياض، والتي التقى خلالها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي وللمرّة الأولى قبل البحث في الملفّ اللبناني بعد تمنّع طويل عن هذا البحث، انسجاماً مع الموقف السّعودي القائل بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وحسب معلومات عمّا حمله عبداللهيان في زيارته الأخيرة للبنان، فإنّ الجانبين السعودي والإيراني اتّفقا على التّعاون لدفع الأزمة اللبنانية نحو الحلّ، خصوصاً بعد تحرّك ملفّ اليمن إيجاباً بين الرياض والحوثيين بوساطة سلطنة عمان وبدور معين لعبته طهران لدى صنعاء.

وتأسيساً على نتائج زيارة لودريان الأخيرة يقول أحد المعنيين بشؤون الاستحقاق الرئاسي: لقد ذاب ثلج الاستحقاق الرئاسي وبان مرجه" وإختُزلت الخيارات في شأنه لتنحصر بين خيارين لا ثالث لهما: رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون. ولكن لكلّ من الخيارين معطياته وقوته وأسبابه ومبرراته لدى مؤيدي كلّ منهما وذلك في انتظار الوصول إلى لحظة الحقيقة واتخاذ القرار الذي يحدّد نفاذ اي منهما.

فالأوساط السياسية على اختلافها منقسمة في تقديرها لمدى رجحان هذا الخيار على ذاك، خصوصاً وأنّهما موجودان بنسب متفاوتة في صلب اهتمامات جميع المعنيين الداخليين المباشرين بالاستحقاق الرئاسي، وكذلك هما موجودان في لائحة اهتمامات المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية، ولكن مثلما هناك في فريق المعارضة من يعارض بشدّة علناً أو ضمناً ترشيح فرنجية، هناك أيضا من يعارض عون، ويحبّذ خيارا ثالثاً، والواقع نفسه موجود داخل فريق "الثنائي الشيعي" وحلفائه، وكذلك داخل صفوف النواب التغييريين والمستقلين والكتل النيابية الصغيرة او المتوسطة.

ويبقى أنّ إمكانية توجيه بري دعوة إلى الحوار وفق المبادرة التي أطلقها اخيراً، ما تزال متاحة، ويمكن أن يوجهها في أيّ وقت، لكن يبدو أنّ الجميع عادوا إلى الجلوس على مقاعد الانتظار إلى حين عودة لودريان في جولة رابعة محمّلاً بنتائج الاجتماع الخماسي المنعقد في نيويورك.