في المضمون الموازنة لا تُصحّح الوضع القائم الذي يحتاج إلى إقرار قوانين إصلاحية ستُقرّ يومًا ما مهما طال إنتظارها 

رفع وزير المال يوسف الخليل مشروع موازنة العام 2024 إلى مجلس الوزراء لدراستها وبحثها بهدف إقرارها وإرسالها إلى المجلس النيابي. ويُسجّل لوزير المال رفع موازنة عامّة لأوّل مرّة منذ سنين طويلة في مواعيدها الدستورية، وهو ما يسمحّ أقلّه بمقارنة التقديرات الموضوعة بالموازنة مع ما تمّ تحقيقه على الأرض، وذلك بهدف تصحيح الأخطاء والمساءلة لاحقًا من قبل المجلس النيابي (إذا ما وُجدت).

في المضمون الموازنة لا تُصحّح الوضع القائم الذي يحتاج إلى إقرار قوانين إصلاحية ستُقرّ يومًا ما مهما طال إنتظارها (على أمل أن لا ترتفع الكلفة أكثر). وبغضّ النّظر عن الملاحظات التي سنسردها في هذا المقال، نُشدّد على أنّ وجود موازنة مهما كان محتواها أفضل من عدم وجودها، والصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة، والتي تتحمّل المسؤولية الأولى عن وضع الماليّة العامّة الكارثي الذي وصلت إليه.

المنهجية المُتّبعة في الموازنة هي منهجيّة بعيدة كلّ البعد عن تصحيح الخلل الحاصل في الماليّة العامّة وعن إستعادة الإنتظام المالي العام. بالإجمال هذه الموازنة تُحاول زيادة إيرادات الدّولة من خلال الضرائب والرسوم، وتتفادى مُعالجة المشاكل الجوهرية في الموازنة والتي تحول وستحول حكمًا دون إستعادة السيطرة على العجز.

المنهجية المُتّبعة في الموازنة هي منهجيّة بعيدة كلّ البعد عن تصحيح الخلل الحاصل في الماليّة العامّة وعن إستعادة الإنتظام المالي العام


العديد من الملاحظات تطال مشروع الموازنة الذي تمّ رفعه إلى مجلس الوزراء. وسنأتي على ذكر البعض منها نظرًا إلى موضوع المقال:

أولًا – لا يُعالج مشروع هذه الموازنة مُشكلة الدين العام، والذي يُعتبر السبب الرئيسي في أزمة الودائع وإنهيار القطاع المصرفي. وقد أظهر تقرير ألفاريز آند مارسال أنّ حجم تحاويل مصرف لبنان إلى الدّولة على فترة أحد عشر عامًا تجاوز السبعة وأربعون مليار دولار أميركي، مؤكّدًا بذلك أنّ الأموال صُرفت من قبل الحكومات المُتعاقبة مع العلم أنّ مصدر هذه الأموال يأتي بالدّرجة الأولى من أموال المصارف المودعة في المصرف المركزي بهدف الإستثمار (CDs).

ثانيًا – واستطرادًا لما سبق في النّقطة الأولى واستمرار أزمة الودائع والمصارف، لا يُعالج مشروع هذه الموازنة مُشكلة الإقتصاد النّقدي الذي يُسبّب مشاكل جمّة لإيرادات الخزينة بحكم التهرّب الضريبي الناتج عن الكاش، وتضع الدّولة اللبنانية أمام مُشكلة مع المُجّتمع الدولي الذي سيُعاود تقييم الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة اللبنانية لضبط الإقتصاد النقدي المصدر الأساسي لعمليّات تبييض الأموال. هذا التقييم المُتوقّع في حزيران من العام المُقبل (أي خلال تطبيق الموازنة)، سيصطدم بموازنة 2024 تُشجّع الإقتصاد النقدي وتُكرّسه بحكم فرض دفع بعض الضرائب والرسوم نقدًا وبالعملة الصعبة.

ثالثًا – لم يُعالج مشروع موازنة العام 2024 مُشكلة الإستيراد التي تُعدّ السبب الرئيسي في خروج الدولارات من لبنان. فمثلًا لبنان الذي يُشكّل ناتجه المحلّي الإجمالي بحدود العشرين مليار دولار أميركي سنويًا (لا توافق من المؤسسات الدولية على رقم الناتج المحلّي الإجمالي) إستورد العام الماضي ما يوازي ناتجه المحلّي، ونصف الناتج المحلّي الإجمالي في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام! وبالنظّر إلى السلع والبضائع الستّ الأولى المُستوردة، نرى أنّ النّفط يحتلّ المرتبة الأولى مع 2.5 مليار دولار أميركي خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023، والذهب في المرتبة الثانية مع 1.2 مليار دولار أميركي، والسيارات مع 333.7 مليون دولار أميركي، والأدوية مع 320.9 مليون دولار أميركي، والماس 227.1 مليون دولار أميركي، وأجهزة الهاتف 153.7 مليون دولار أميركي.

وبالتوسّع أكثر في حالة النّفط، نرى أنّ الإستيراد أتى من عدّة دول (بحسب حجم الإستيراد): اليونان، تركيا، إيطاليا، قبرص، روسيا، السعودية، رومانيا، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية، بلغاريا، هولندا، مصر، كازخستان، بريطانيا، الهند، فنلندا، عمان، المانيا، السويد، فرنسا، اذربيدجان، بلجيكا، ليبيا، اسبانيا، الكويت، العراق، ليتوانيا، تونس، الجزائر، ايران، بولندا، النروج، اليابان، كوريا، الصين، تايلاندا، سنغافورة، النمسا، تايوان، اندونيسيا، سوريا، لاتيفيا، انغولا، روسيا البيضاء، كندا، تشيكيا، سلوفاكيا، ماليزيا، فيتنام، وكوستاريكا.

وإذا كان ورود بعض أسماء الدول في هذه اللائحة منطقي، إلّا أنّ العديد من هذه الأسماء لا ينطبق عليها صفة مُصدّر للنفط (بغضّ النظرّ عن النوع) وهو ما يطرح أسئلة عن التبويب وعن إيرادات الدولة من هذا الإستيراد التي لا توازي 10% مما يجب أن تستحصل عليه، ناهيك عن مُشكلة التهرّب الجمركي والتي تجعل الأرقام الفعلية أكبر من تلك المبوبة.

رابعًا – لم يُعالج مشروع موازنة العام 2024 مُشكلة التضخّم والإرتفاع المُستمرّ في الأسعار، لا بل على العكس، بهدف رفع الإيرادات عمد مشروع الموازنة إلى رفع الضّريبة على القيمة المُضافة وهو ما يعني إرتفاع شامل في أسعار السلع والبضائع والخدمات حتى تلك المعفية في المادتين 16 و17 من قانون الضريبة على القيمة المضافة. وبالتّالي وبدل أن يكون هناك إجراءات تواكب لجم إرتفاع الأسعار خصوصًا مع توقّعات بإرتفاع أسعار النفط العالمية، رفع مشروع الموازنة الضريبة على القيمة المضافة بشكل يجعل التضخّم أكبر.

خامسًا – لم يُعالج مشروع الموازنة مُشكلة الفساد سواء من باب التهرّب الضريبي أو التهريب الجمركي أو الرشوات في المؤسسات والإدارات العامّة. لا بل على العكس، شرّع الفساد في ما يُسمّى بـ "الخدمات السريعة" والتي تُفاقم وضع الفساد من باب أنّ إعتماد هذه الخدّمات لن يُقلّل من الرشوات غير المُعلنة.

بالطبع اللائحة تطول ولن يكون هناك من مُتسع لها في هذا المقال. إلّا أنّه من الضروري التركيز على ما ذكرناه في العنوان، ألا وهو المنهجية، والتي وحدها كفيلة بإعادة الإنتظام المالي في حال كانت مؤاتية للتحدّيات القائمة.

من هذا المُنطلق، نرى أنّ المنهجية الصحيحة تنصّ على وضع كلّ المشاكل بحسب الأولويات (من الأكثر خطورة في تداعياتها على المُجتمع اللبناني إلى الأقلّ خطورة)، ووضع في المقابل لائحة بالإجراءات الواجب القيام بها لحلّ هذه المشاكل على أن يتمّ ترجمة هذه الإجراءات في الموازنة بطريقة يكون فيها تعظيم الإستفادة العامّة مُطلق (Maximization of the Lagrangian). فقط من خلال هذه المنهجية يُمكن الوصول إلى موازنة تُعيد للبنان إنتظام ماليّته العامّة وتُحفّز إقتصاده وتحمي شعبه من الكوارث المُتوقّعة في حال إستمرّينا على المنهجية القديمة.

سياسة الترقيع لم تعد تنفع والمطلوب اليوم الوقوف وقفة رجال دولة، والقيام بما يلزم لحماية الشعب اللبناني الذي تأتي لقمة عيشه وطبابته ومسكنه وتدفئته وكهربائه وعلم أولاده في المرتبة الأولى. كلّ الأمور الأخرى، وعلى رأسها المُحاصصة السياسية والمصالح الخاصة، تسقط في سلّم الأولويات.